بسم الله الرحمن الرحيم .. بلا شك إني أسعد بأن أكون معكم اليوم، في هذه المؤسسة العلمية المرموقة، التي وقفت من قضية التراث موقفاً مشرفاً منذ سنوات طويلة، وفي الحقيقة أن قضية الاهتمام بالتراث الوطني العمراني لم تبدأ في هذه السنة، ولم تبدأ قبل عشر سنوات، بل بدأت منذ أكثر من 25 سنة. وهذه القصة رويتها في كتاب مع د. مشاري النعيم، وهو موزع في هذا الملتقى، وفي حفل افتتاح الليلة. وأود أن أذكر بالتحديد لماذا نحن مهتمون بقضية التراث العمراني الوطني، وقبل ذلك أوجه الشكر والتقدير إلى خادم الحرمين الشريفين، وسمو ولي عهده الأمين -حفظهما الله- اللذين وقفا مواقف مشرّفة، بعضها معروف للناس، وبعضها غير معروف في قضية حماية التراث العمراني من الاندثار، والعمل مع المؤسسات سواء مؤسسة التراث الخيرية التي بدأت منذ سنوات طويلة، أم – لاحقاً– مع الهيئة العامة للسياحة والآثار. ونحن اليوم ننظر إلى قضية التراث العمراني على أنها قضية وطنية، بلا شك، وليست قضية عمرانية أو معمارية فحسب؛ لأنه من الخطأ أن تكون عنايتنا بالتراث العمراني العناية بالأشكال أو بالأمور الهندسية أو حتى بالتطوير الحضري المتعلق بالتراث العمراني الوطني المستوحى من ذلك، فهذه قضية مهمة، وقضية أنتم تخدمونها -كما رأيت اليوم– بشكل مميز وأنا أود أن أسجل إعجابي بما رأيته اليوم من نقلات كبيرة جداً ومقارنة بسنوات مضت في أعمال الطلاب. إن الذي يعرفني يعرف أنني لا أجامل إلى حد ما، أقول الحقيقة أو أصمت، وما حصل أن د. وليد الحميدي -نائب رئيس هيئة السياحة لقطاع المناطق- في بدايات الهيئة ذكر أن إحدى الجامعات عرضت مشروعات الطلاب، ودخلت أستعرض تلك المشروعات، فوجدت المباني المتناثرة والزجاجية والمباني المستوحاة من لا شيء، والمنسوخة من معماريين عالميين، بطريقة النسخ والنقل، وليست طريقة الإيحاء الذي له علاقة ببيئتنا أو مجتمعنا، وليس له علاقة حتى بحاجاتنا، وأذكر أنني تجولت في ربع المعرض واعتذرت، وهذه القصة أقولها أول مرة. وقلت لـ د. وليد: رجاء لا تدعوني أن أطلع على أعمال الطلاب مرة أخرى؛ لأني حزنت بما رأيت، وأعتقد أن هذا هو الاحتقار غير المقصود والمسبب من بعض هيئات التدريس الذين أتوا من دول مختلفة، أو من بلادنا – مع الأسف – ونقلوا معرفة لا تنتمي إلى معرفتهم المحلية، واحتقروا تراثنا، سواء المعماري أو غيره في كثير من الأحيان، واعتقدوا أن تراثنا متخلف وضعيف ورجعي كما سُمينا في كثير من الأوقات في الستينيات. وهذا الرجل الجالس معنا الآن د. أحمد السيف، كان يرأس قسم العمارة في جامعة الملك سعود، وقدمنا في سنة 1416هـ مشروعاً متكاملاً اسمه التراث العمراني في التعليم الجامعي، ووجد تأييداً من معالي وزير التعليم العالي، ثم عُقد اجتماع لعمداء كليات العمارة، وكنت -آنذاك- رئيساً فخرياً لجمعية علوم العمران في جامعة الملك سعود، وكان لقاء كارثياً؛ لأن أكثره كان مديحاً ومجاملة لشخصي ولبعض الحضور. ولم يكن هناك حماس قط كما رأيت في هذه الجامعات والحضور لتلقف هذه الفرصة التاريخية بأن نعيد الاحترام إلى تراثنا العميق والقوي والثقيل الوزن المحترم والمتنوع، وانتهى اللقاء بمناقشات حادة وقتلت هذه المبادرة، إلا ما قلّ. وقد تبنى هذه المبادرة شخصان فقط، وهذا الرجل الجالس أمامنا الآن هو د. أحمد السيف أول واحد تلقى هذه المبادرة وكلمني قائلاً: لا تهتم بموقف الجامعة وكلية العمارة، وقد جهزت برنامجاً متكاملاً حول ذلك، وسوف أتبناه، وهذا البرنامج الآن هو أساس برنامج مهم في جامعة الملك سعود، ثم انتقل بعدها إلى حائل، ونقل معه البرنامج بشكل قوي، وهو الآن عضو في الهيئة العامة للسياحة والآثار في مركز التراث الوطني. قصة انتقال التراث العمراني الوطني من حالة الازدراء والاحتقار التي كنا نعيشها مع البلديات والجامعات والمواطنين، هي قصة عجيبة، وقد جاءت في كتاب التراث العمراني، وهذا الكتاب لا يعلمكم شيئاً، إنما هو قصة، وقد تحولت إلى المسار الصحيح. منذ سنوات في الهيئة العامة للسياحة والآثار ذهبنا برؤساء البلديات ورؤساء المحافظات في رحلات استكشافية إلى مواقع للتراث كانت مهملة ومدمرة في بلادنا، وتحولت إلى آبار نفط، وخصوصاً في المنطقة الشرقية، وتحولت إلى مواقع انطلق منها الاقتصاد المحلي وفرص العمل، وجمعت شمل الأسر التي تشتت أبناؤها في المدن الكبرى لطلب العيش، وذهبنا بهم إلى دول متحضرة، وذات اقتصاديات ضخمة وكبيرة وقوية، وليست دول احتاجت إلى أن تلجأ إلى شيء مثل التراث العمراني بحكم أن اقتصادياتها ضعيفة، حيث ذهبنا بهم إلى إيطاليا وفرنسا وبعض الدول الغربية والشرقية، وهي موجودة على موقع التراث العمراني، ولا بد لكم أن تقرؤوا رسائل رؤساء البلديات التي كتبوها وهم يتجولون في تلك المناطق التي انبهروا بها، وكيف تحولت إلى موارد اقتصادية، ومواقع يجتمع بها شمل الناس، ويعرفون بلدهم، ويعيشون وطنهم. هذا التحول الكبير انعكس أيضاً على أمانات المناطق، وأحيي الأخ العزيز ضيف الله على هذه المبادرات الرائعة، وكنا في بدايات العمل نعمل بنوع من الاحتكاك والحساسيات، وكان الناس يشتكون من مشكلاتهم مع البلديات، وخصوصاً الشرقية، وكنت أحاول أن أقنعهم وأعرفهم هذه القضية الجديدة، وفعلاً أحيي أمانة المنطقة الشرقية، وأمانة الدمام، وأمانة الأحساء بكل صدق على هذه المبادرات الرائعة والهائلة التي أصبحنا فيها الآن شريكاً مهماً، واليوم أعلنت عن موافقة وزير الشؤون البلدية والقروية على إنشاء إدارة متخصصة في إدارة البلديات اسمها إدارة التراث العمراني الوطني، وهذا مكسب تاريخي؛ لأن التراث العمراني أصبح اليوم شريكاً على المستوى الوطني للهيئة العامة للسياحة والآثار، واليوم الهيئة في تنظيمها كلفت بالإشراف والمحافظة على التراث الوطني والعمل مع شركائنا وأعضاء مجلس الهيئة أيضاً من رؤوساء البلديات والوزارات الأخرى، ولذلك ولأول مرة يصبح للتراث العمران جهة حكومية مختصة تعمل على تطويره، ونظام الآثار الجديد أصبح اسمه نظام الآثار والتراث العمراني الوطني، وهذه نقلة تاريخية وهو في طريقه إلى الإقرار دون مشكلات، إن شاء الله، وسوف يعطي التراث العمراني بعداً جديداً في التسجيل والحماية... إلخ. قضية التراث العمراني اليوم اعترفت بها الدولة، وتلقفها المواطنون بعد تمنعهم في وقت سابق، وعملنا نحن معهم في قراهم، وأنا أسعد بالذهاب إلى القرى الصغيرة، وأتكلم مع أهلها، وهم رجال مخلصون وكرماء ومحبون لوطنهم، وكان بعض الناس يقولون لي: لِمَ لا تزيلون هذه القرية حتى نبني فيها مساكن للفقراء؟ كما قال لي الشيخ المنيع -عضو هيئة كبار العلماء- أو بعض سكان القرى، مثل: رجال ألمع، وقرية ذي عين والغاط وقرى أخرى، وكان يقولون: نحن نخجل أن الناس تزورنا وترى هذه المباني الطينية والحجرية المتهدمة، فأقول لهم: إن الرسول -صلى الله عليه وسلّم- سكن في بيت من الطين، وصلى في مسجد من الطين، ولا أقارن طبعاً، ولكن أتكلم عن تجربتي الشخصية فأنا أسكن الآن في بيت من الطين، ورأيت الشباب الذين يبنون بيوتهم بالطين، وتمنيت أن يكونوا معنا اليوم، وكنت أبني مع أطفالي وما زلت أبني الآن، وعندنا الآن مقر مؤسسة التراث الذي سوف يبنى بالطين، ويتعاون معهم معلمي الأستاذ الدكتور صالح لمعي الذي التقيته منذ أكثر من عشرين عاماً في بناء بيت العذيبات، وكانت تجربة جميلة جدا،ً وتعلمت منه، ومن المهندس عبد الواحد الوكيل، وغيرهما، وعملنا معاً، وكنا نبني بأيدينا وما زلت وأنا أجد متعة في هذا الشيء. وأنا أقول للناس إن تجربة السكن في البيت الطيني تخترق الزمن والتاريخ، ولا يمكن أن أكون أنا وكل إنسان عاش بالسعودية متخلفاً، فأنا لا أهرب من التقنية، فالبارحة أنا جئت بطائرة، وعندي رخصة قيادتها، وهيئة السياحة من أولى الدوائر الحكومية في مجال توظيف التقنيات الحديثة، التي نستخدمها ليل نهار، وأرأس جمعيات التقنية، ونظمنا مؤتمر رواد الفضاء من قبل، وهذا لا علاقة له بقضية أننا نحب تراثنا، فهذا لا يعني أننا متخلفون، بل بالعكس، وأريد أن أكرر هذه العبارة التي أقولها دائماً للطلبة، وهو أنه تزداد قناعتي –وبالإثبات- أن اهتمام الناس بتراثهم وبتاريخهم يزداد مع تحضر الناس، وارتفاع مستواهم الاقتصادي، وقد ذكرت مثالاً على الدول المتقدمة: إيطاليا، وفرنسا، واليابان، والولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، فهذه الدول أكثر تقدماً في حماية تراثها، وفي إعادة المواقع إلى طبيعتها، وفتحها للناس. وقضية التراث هي قضية اقتصادية، وقضية فرص عمل، وقضية توطين المواطنين، وهذا سوف ترونه قريباً -إن شاء الله- في المواقع التراثية كيف يعود المواطنون، وخصوصاً في مجال السياحة والتراث، إلىتقديم الخدمات للسكن في قراهم الجملية وبساتينهم، والبنك الزراعي في اتفاقية مع الهيئة موّل أول مشروع ريادي في القصيم من ضمن تسعة مشروعات لبناء الاستراحات الريفية، ونلاحظ الآن إعادة تركيبة اقتصادية لاقتصادات المحلية في المملكة، التي تعتمد اليوم بنسبة 90% تقريباً على الدولة في الرواتب والمصاريف، وغيرها. وهذا خلل اقتصادي جداً، والآن جاء الوقت ليتحول إلى قيمة مضافة، ونحن نعمل الآن مع وزارة الداخلية، وزارة الاقتصاد، ووزارة العمل، ومنظمة العمل الدولية، والسياحة الدولية في دراسة طلبتها وزارة الاقتصاد للأثر الاقتصادي للمشروعات الصغيرة والمتوسطة. التراث العمراني هو جزء لا يتجزأ من هذه التركيبة الاقتصادية في إعادة تطويرها، وأتمنى من جامعة الملك فيصل، ويسعدنا في الهيئة العامة للسياحة والآثار، أن نرتب زيارة لهيئة التدريس، وطلبة كلية العمارة لبعض المشروعات في بلادنا، فنحن كنا نذهب إلى بلاد أُخر فيما مضى، ونريهم عمل غيرنا، ونحن الآن نذهب بهم إلى بلادنا -والحمد لله- فهناك فنادق الآن تبنى في بيوت تراثية، فقد كنت في محافظة الغاط الجميلة في منطقة نجد، وجلست مع الملاّك، وكنت أسعد بهم، ولم نكن نشترط أن يكون الملاك من أصحاب الشهادات، فكانوا يأتون رجالاً ونساء ونجلس معهم، وعندما بدأنا، كان الملاك متمنعين تماماً عن فكرة دخول بيوتهم وإرثهم ضمن جمعية وإنشاء فندق تراثي، والدولة تقدم التمويل الآن عن طريق بنك التسليف الذي يمول الآن القرى التراثية، ويمول أصحاب البيوت التراثية. قضينا نحو ساعتين في إقناعهم، وفي نهاية اللقاء قلت لهم: فكروا جيداً، وبعدها قرروا، فطلبوا التريث، وجاءني جماعة منهم وعددهم سبعون شخصاً دخلوا ذلك المشروع في تلك اللحظة، ومثل هذا حدث في ذي عين، وفي قرى أخرى ضمن المناطق المنتشرة في المملكة، والقرية الآن فيها نحو أربعين أو خمسة وأربعين بيتاً، ويمكن لطلاب كلية العمارة رؤية ذلك المشروع، حيث موّل مع قرى أخرى في المملكة بـ 7ملايين ريال، ووضع أيضاً الملاك مبلغاً إضافياً، ودخلت الشركة لتطوير الفندق وتشغيله، والآن الهيئة العامة للسياحة والآثار أقرت -بالتعاون مع صندوق الاستثمارات العامة - إنشاء شركة الفنادق والضيافة التراثية، وسوف تكون باكورة مشروعاتها في أربع مناطق في المملكة بمبلغ 350 مليون ريال. والآن اكتملت منظومة التمويل، وأيضاً منظومة الشركات الرائدة، مثل شركة التراث العمراني، والضيافة التراثية التي سوف تنشئها الهيئة مع شركات من القطاع الخاص، وأيضاً نلحظ أننا ملاك الآن، وأتمنى أيضاً أن تشمل الدعوة زيارة الرياض، وتزوروا وادي حنيفة مثلاً، فهو مشروع رائد، وأنا أستغرب لماذا لم يقرروه في المناهج؟ إلى جانب زيارة مشروع تطوير الدرعية التاريخية، فهذه المشروعات فازت بجوائز عالمية، واعترف بها الناس، ولكن مواطنيها لم يروها بعد. بدأ الملاك في هذا الوادي وأنا قابلت أربعة منهم في تصميم وإنشاء فنادق تراثية مبنية من الطين، وأيضاً على ساحل البحر الأحمر، وفي مناطق أخرى، ففي الطائف والهفوف ومناطق أخرى في وسط جدة وفي وسط الرياض وفي أواسط تسع مدن، بدأت البلديات معنا، وهي شريك رائد، ونحن استثمرنا في البلديات استثمارات كبيرة، ونعمل مع البلديات على تنظيم رحلات لرؤساء البلديات والمهندسين إلى دول أخرى متقدمة في مجال التراث العمراني، وأنشئت إدارة متخصصة، وستكون وكالة مستقبلاً -إن شاء الله-. ونعمل مع البلديات في تصميم المشروعات السياحية، وقد انطلقت الآن في بلدية تبوك على شاطئ البحر الأحمر، وبلدية عسير، وأمانة الأحساء التي قمنا معها بتصميم سوق القيصرية تصميماً جديداً، ووقفنا موقفاً قوياً نحن والبلدية ضد أي محاولات تحويلها إلى مول أو ماشابه، وأنا تفاجأت بتطوير معظم عناصر وسط الهفوف، وأنا أوجه الدعوة إلى جميع الطلبة لزيارته، وأتمنى من الجامعة أن تضمه إلى موقعها بالإنترنت. في جامعة الملك عبدالعزيز، لما ذهبنا في العام الماضي كان هناك ملتقى الشباب، وهذه السنة ملتقى الشباب نظمناه في الأحساء، وإذا رغب الإخوان في المعرفة فعليهم أن يذهبوا إلى «الرابط»، وهناك موضوعات كثيرة تهم الأحساء ومن ذلك حوار جميل جداً أتمنى أنكم تشاركون فيه. وعندما ذهبت إلى جدة قضيت ثلاثة أيام في الأسواق التي جرت فيها الفعاليات، مثل سوق العثيم، وحين تزورونه تشاهدون الفعاليات والمعرض والقيصرية، وتشاهدون الأطفال وهم يبنون، ويعملون مع الحرفيين والبنائيين فنلمس التراث. وفي جدة كنت أذهب إلى الملتقيات يومياً، وأجلس في الخلف خلف المنطقة التي فيها البرنامج العلمي والمحاضرات، ولم أصدق عدد الطلبة الذين حضروا، وهذه الفعاليات كانت من الصباح إلى المساء، والجامعة سمحت لهم بالذهاب لحضور الملتقى، والقاعات لم تتحمل كثرة الناس المشاركين، وأنا أؤكد أن هذا الملتقى ليس ملتقى للعمارة، إنما هو للتراث العمراني الوطني بأبعاده الاجتماعية والاقتصادية والوطنية والسياسية، ثم أبعاده العمرانية. ونحن نقول للأمانات دائماً: اعملوا مع الناس، وأنا أؤمن بالمشاركة؛ لأن أكبر مكسب أن يتضامن معك الناس، ففي الطائف مثلاً عندما جمع الأمين الملاّك، قالوا: نحن لا نريد مبالغ مالية، بل نريد أن نعيد واجهات مبانينا، ونتيح ساحات أمامية فالمواطن السعودي عندما تعطيه قدره من التقدير والاحترام وبناء الشراكة فإنه يتجاوب معك، فلذلك أؤمن أن المواطن السعودي بنى هذه الدولة، وهذه الوحدة الكبيرة جداً قبل البترول والثروة؛ لأنه تلقى هذه المبادرة التاريخية بتوحيد بلاد الإسلام تحت مظلة الإسلام باحترام وتقدير، والمحافظة على القيم التي تجمع شمل الناس على الخير وتعاونهم بعضهم مع بعض، وهذه موضوعات أساسية يجب ألاّ ننساها، فلذلك اليوم، فإن الأعمال التي تقوم بها البلديات بالتضامن مع الملاك مثل ما حدث في الهفوف، وكل المناطق الأخرى أدت إلى أن الملاك أصبحوا يملكون هذه المبادرات، ويحافظون عليها، وينعمون، ويسعدون بها؛ فلذلك قضية التراث العمراني قضية وطنية مهمة أخرى، فكيف اليوم نحن مواطنون -وبخاصة الشباب- لا نعرف إلا الجزء اليسير من تاريخ هذه البلاد: كيف تكونت، وكيف تحققت هذه المعجزة، لقد بناها آباؤكم وأجداكم، ولم يبنها شخص ولا مجموعة ولا فئة، وحافظ عليها آباؤكم وأجدادكم. وهذه المواقع التاريخية المنتشرة في بلادنا هي كتب مهملة وقصص، ولا بد أن نحييها، ولا بد أن يعرف المواطن هذه المواقع التي حصلت فيها هذه القصة العجيبة، وهذه المعجزة الكبيرة الهائلة. الولايات المتحدة استثمرت في الستينيات الميلادية المواقع التاريخية أيام كان المد الشيوعي، وركزت أكثر في المواقع التاريخية التي حصلت فيها مسارات توحيد أمريكا، واليوم المواطن الأمريكي تجده يعرف قصة بلاده من أولها إلى آخرها، بل تجد عنده نوعاً من الاعتزاز. أما بلادنا، فإنها تشبه المعجزة، ولم أر إنساناً شرقياً أو غربياً أتي إلى هنا إلا وانبهر من آثار المملكة، ولكن المؤسف أن مواطنينا -وبخاصة الشباب- لا يعرفونها؛ فالسياحة متأخرة، والطرق السريعة غير مخدمة، وخطوط الطيران تعطل الناس عن الذهاب إلى المواقع، والمواطن اليوم غير محفز إلى أن يذهب ليتمتع، وهذا نراه الآن في انحسار إن شاء الله؛ لأننا نرى إقبالاً كبيراً من المواطنين والأسر والشباب على تراث بلادهم، وحرصاً على التمتع بهذا التاريخ العظيم لبلادهم، والتمسك بهذه المكاسب الكبيرة. أنا لم أصدق هذا التوسع العمراني في المنطقة الشرقية، فهو من دلائل النعمة الكبيرة التي نعيش بها، وما تتمتع به بلادنا من استقرار واطمئنان، ولا شك، أننا -مثل بقية الدول- لدينا مشكلات، ولكننا -والحمد لله- في وضع مطمئن، وقيادة المملكة تعمل وتسمع الناس، والاختراق الذي يحاول بعضهم القيام به مردود، ولم ينجح، على الرغم من المحاولات في كل مراحل هذه البلاد منذ تأسيسها حتى اليوم. وبلادنا اليوم في وضع اقتصادي قوي، والمواطن أصبح متعلماً، ويعرف هذا المكسب الكبير لبلاده ويعيه بشكل قوي؛ ولذلك نحن هذا اليوم نريد أن يؤدي التراث العمراني دوراً في إحداث نقلة محسوسة لدى المواطنين، وأحيي جامعة الدمام، والملتقى القادم سيكون -إن شاء الله- في المدينة المنورة بمناسبة أنها عاصمة الثقافة الإسلامية. مؤسسة التراث الخيرية مؤسسة بدأت صغيرة، وهي اليوم مؤسسة بذرت بذوراً جيدة، وخرج منها، ومن جمعية علوم العمران كثير من المبادرات الكبيرة التي أصبحت على المستوى الوطني، وسعدت أيضاً بوزارة التعليم العالي، وهي شريك قوي بالنسبة إلينا، وسوف نعلن اليوم عن تدشين كتاب تقوم به الوزارة عن التراث العمراني الوطني. وأبلغني معالي الوزير أن الوزارة التزمت دعم البحوث العلمية للطلاب في مجال التراث العمراني، ونستطع أن نعمل معهم في مركز التراث العمراني الوطني، وإرسال مجموعات الطلبة المتميزين إلى المؤتمرات الدولية. ونحن بدأنا به في الواقع بإرسال الطلبة المتفوقين مع رؤساء البلديات والمحافظين إلى دول كثيرة، مثل: إيطاليا، وتونس، ودول أخرى، والموضوع يحتاج إلى وقت، ولكنني متفائل كثيراً ومتفاجئ باعتقاد الناس أنهم سوف ينفرون من تراثهم، وأن كبار السن هم من يتلقفون تراثهم، ولكن العكس هو الصحيح، فأنا وجدت الشباب هم أكثر الذين يتوقون، ويتلقفون هذا التراث، وحوارهم البارحة كان حواراً غنياً وثرياً جداً، وعندنا الآن 600 شاب وشابة مسجلون اليوم عندنا في اللجان الاستشارية للتراث الوطني، ومتوزعون في أنحاء المملكة، وأنا قلت يوم أمس في جامعة الملك فيصل، وتجاوبت مع الإخوة والأخوات في إنشاء جمعية أصدقاء التراث، وأتمنى من جامعة الدمام اليوم أن توافق على إنشاء جمعية أصدقاء التراث في جامعة الدمام، ومستعدون نحن في دعم هذا التوجه، ونهيئ له كل الوسائل حتى ينجح، إن شاء الله. أنا شاكر لكم ومقدر، وأنا لا أهنئ الفائزين اليوم، فالجميع اليوم فائزون، ونحن نهنئ أنفسنا، وأنا بوصفي مؤسساً لمؤسسة التراث الخيرية أعتز بهذه المشاركات الكبيرة التي وصلتنا في هذه الجائزة المخصصة للمهنيين والطلبة، وعندنا الجائزة الكبرى التي تخصص للملاك ولأصحاب المبادرات الكبيرة في مجال التراث، وهذه سوف تمنح في العام القادم، وعندنا أيضاً جائزة الإنجاز مدى الحياة، التي فاز بها سابقاً الأمير تشارلز، الذي أتى إلى الرياض، وتحدث طويلاً عن قضية التراث العمراني، ومؤسسة الآغا خان المتميزة، كما فاز بها مجموعة من الرواد، والآن بترشيح من جمعية علوم العمران فاز بها سيدي صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز، وسوف يتسلمها -إن شاء الله- يوم الثلاثاء المقبل في قصر المربع في الرياض، وهو أحد المشروعات الرائدة التي قام بها، وموقع مؤسسة التراث الخيرية سوف ينشر معلومات عن مسوغات هذه الجائزة، وسوف يكرم، حفظه الله، ويكرم معه عشرات الأشخاص الذين عملوا على إحداث معجزة تاريخية في منطقة الرياض. والآن الرياض مقبلة على تطوير منطقة مساحتها 15 كيلومتر مربع بشكل متكامل، وهي المنطقة القديمة في الرياض، وباكورتها مشروع تطوير الظهيرة الذي يعدُّ في وسط الرياض وفيها نحوالي 400 بيت تاريخي، ومنطقة سكنية ومنطقة متاحف، وفيها متحف (تعيش السعودية). بلادنا غنية بتراكم التراث العمراني، ولكن أيضاً التراكم التاريخي على مدى آلاف السنين، فالناس في أمريكا منبهرون، ويعرفون أن هذه البلاد من البلاد ذات الوزن الثقيل تاريخياً وحضارياً وقيماً وأخلاقاً، وما يقوم به ملك هذه البلاد -يحفظه الله- من مبادرات تاريخية في مجالات إطفاء الاحتقان السياسي، والتدخل في السلام وحوار الأديان وحوار الحضارات، ليس شيئاً مبتدعاً أو فقاعة إعلامية إنما هو شيء موروث، وأنتم مواطنو المملكة السعودية –وباعتقادي- مبرمجون جينياً أن تكون لكم الريادة، فأنتم ورثتم هذا الدين العظيم، وتعيشون في بلد الإسلام، فلا مناص من أن يكون المواطن السعودي ذا أخلاق ووفاء وعزم؛ لأن من خرجوا من هذه الجزيرة العربية ونشروا هذا الدين هم أبناء هذا الوطن، وإذا نظرت في التاريخ، ونظرت إلى هجرة الإنسان من بداياته من إفريقية فستجد أنه مرّ من الجزيرة العربية، وإذا نظرت إلى الحضارات الضخمة تجدها تداولت في الجزيرة العربية، واستقرت، وهذا ما نستكشفه من الآثار، ومن الطبقات التاريخية. وهذه المنطقة الجزيرة العربية كان يدار منها اقتصاد العالم من تيماء، ومن مواقع أخرى، وأنتم اليوم ورثتم هذا التداول الحضاري العجيب من الحضارات المتعاقبة، وبلادنا ليست حالة طارئة على التاريخ، والمواطن السعودي ليس مواطناً هامشياً يحتاج إلى من يقول له: ماذا يعمل؛ فهو مثل البذرة الطيبة التي تعطيها قليلاً من الماء. ومن تجربتي خلال ثلاثين سنة أعمل مع المواطنين، وعملي اليوم صعب ومتعب، ولكنه أمتع عمل في المملكة العربية السعودية؛ لأنه يتاح لي أن أتنقل يومياً بين القرى والمدن، بين والأمناء وأمراء المناطق، وأتشرف بمقابلة سمو سيدي رئيس مجلس الوزراء وسمو ولي العهد، حفظهما الله، والوزراء، وأعمل معهم في حل مشكلات واشتباكات يومية، ونجد الحلول، ولذلك أنا أجزم اليوم أننا في بلادنا في مرحلة انتقالية تاريخية، والمواطن اليوم لابد أن يكون رأس الحربة، فالمواطن المخلص الذي يعرف وطنه، ويقدر هذا الوطن، وهذه المكاسب الكبيرة جداً سوف يكون -إن شاء الله- السد المنيع أمام محاولات الاختراق البائسة التي شهدتها البلاد عبر التاريخ، وكلها اندثرت، فكل من حاول اختراق بلادنا، وحاول أن يسبب خللاً أمنياً، أو يفرق بين الناس اندثر، وبقيت هذه البلاد على مبادئ ثابتة لم تتغير منذ تأسيسها، فهي التزمت المبادئ نفسها، فلا تتلون بالألوان الجديدة، ولا تطلق قناة فضائية جديدة بحثاً عن سمعة، فبلادنا لا تحتاج إلى دعاية، بل تحتاج إلى إظهار الحقائق فقط. وكل واحد منكم هو جزء من إظهار هذه الحقائق، وقد قابلت اليوم أحد الظلاب، واسمه عبدالرحمن الغامدي (من جامعة الدمام)، وقد عمل مشروعاً في نجران أو في تبوك، فهذه معجزة تاريخية تحدث في بلاد لمت الشمل، وجمعت الأمة. أشكركم على حضوركم اليوم، وعلى استضافة هذه الجائزة التي هي جائزتكم. والسلام عليكم.
فيديو
الكلمة